کد مطلب:39867 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:312

مقدمة المحقِّق











الحمدُ للَّه الّذی أضاء قلوب أولیائه بنوره فانكشف لهم به أسرار الوجود، ورشح علیهم من بحر المعارف والعلوم وسقاهم بكأس المحبّة فانشرح به صدورهم، فخرجوا بما منحهم من إفاضاتة من مضیق عالم الطبیعة وظلمات علائق القیود إلی عالم السعة والنور والسرور.

والصلاة والسلام علی نبیِّه وصفیِّه ومستودع سرِّه، أوّل الموجودات ومصباح الهداة، وعلی آله وأهل بیته معادن الإحسان والجود، ولاسیّما ابن عمِّه ووصیِّه أمیر المؤمنین علیه السلام، الّذی جعله اللَّه تعالی بمنزلة نفس النبیّ صلی الله علیه وآله، صلاةً دائمةً باقیةً ماظهرت أسرار الوجود عن خبایا العدم، متلاحقةً متتالیةً لا تكتمل بالعمم.

أمّا بعد، فإنّ أحقَّ الفضائل وأولاها وأزهر العقائل وأسناها هو العلم الّذی یتضاءل عنده رأسُ كلِّ عزٍّ وفخر، ویتطأطأ عند عظمته تلیع عنق الدهر، ویضمحلّ فی حذائه كلُّ نورٍ وینكسف، وینمحی فی إزائه كلُّ ضیاءٍ وینخسف، فلا مجد إلّا وهو ذروته وسنامه، ولا شرف إلّا وهو یمینه وحسامه، ولا المسك الأذفر والعنبر الأشهب بأطیب منه وأذكی، بید أنّ له أفانین وفنون، وعسالیج [1] وغصون، وإنّ من

أجلّ العلوم شأناً وأعلاها مكاناً وأرجحها میزاناً وأكملها تبیاناً علم الحدیث.

فله مِن بینها الرتبة الأعلی ، والمنزلة القصوی ، وكفی له علوّاً وامتیازاً، وسموّاً واعتزازاً، أ نّه یری منازل كانت مهبط جبرئیل، ویعرّف وجوهاً نطق فی ثنائهم الكتاب الجمیل، ویوصل إلی مربعٍ محفوف بالتقدیس والتهلیل، وینظم فی عقدٍ منظومٍ مِن جواهر معادن الوحی والتنزیل، ویشدّ بحبلٍ ممدودٍ یصل إلی اللَّه الجلیل.

ولمّا كان كمال الإیمان بمعرفة أئمّة الأزمان بمنطوق شریف القرآن وجب صرف الهمّة فی كلِّ أوان، لوجوب الاستمرار علی الإیمان فی كلِّ آن.

ولهذا اهتمّ بشأنه العلماء، وأتعبوا أبدانهم، وأسهروا أجفانهم، وتجرّعوا لنیله غُصص النوی ، وباتوا وفی أحشائهم تتّقد نار الجوی ، وخاضوا لأجله لجج الدماء، وجزعوا المنفق البیداء، حتّی فازوا بالمراد، وأصبحوا زعماء البلاد، ومناهج الرشاد، وهداة العباد.

وقد صنّف علماؤنا رضوان اللَّه علیهم فی ذلك كتباً مقرّرة، وألَّف فضلاؤنا فی الردِّ علی مخالفیهم أقوالاً محرَّرة، وأجالوا فی الحقائق والدقائق خواطرهم، وأحالوا عن العلائق والعوائق نواظرهم، ونصبوا فی ذلك رایات المعقول والمسموع، وأوضحوا آیات المستنبط المطبوع، غیر حائدین [2] عن روایة الصدق المبین، وغیر مائلین عن رعایة الحقّ الیقین، فیستضی ء المتعرّف بأنوار مصنّفاتهم، ویرتدی المتحرّف بأسرار بیِّناتهم.

وكیف لا تصرف العنایة إلی قومٍ هم الأحبار الأشمّ والأبحار الخضمّ، أحد السببین اللّذین من اعتلق بهما فاز قداحه، وثانی الثقلین اللّذین من تعلَّق بهما اسفرّ من جمیل السُّری [3] صباحه، ولایتُهم نجاةٌ فی الاُولی والعقبی ، ومودَّتهم واجبةٌ (قُل

لَّآ أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی )[4] ، فما من شرفٍ تمتدّ إلیه الأبصار، ولا من طرفٍ یرتفع لدیه اقتباس الأقدار ولا باب تعظم فیه الأخطار ولا لبابٍ تقحم به الآثار إلّا وقد جازته قادات الأطهار وحازته سادات الأبرار، مع سعی المعاندین فی إطفاء نورهم (وَیَأْبَی اللَّهُ إِلآَّ أَن یُتِمَّ نُورَهُ و)[5] ، وبغی الجاحدین فی تطریدهم وتشتیت قبورهم، ویُرید اللَّه أن یظهر حجّته ومزبوره، فهل قُدّم علیهم إلّا من سمل [6] عین الإیمان؟ وهل تقدّمهم إلّا من شمل قلبه الطغیان، وقد ضاءت مدائحهم ومنائحهم فی كتاب ربِّ العالمین، وجاءت لأعدائهم قبائحهم وفضائحهم ظاهرة للناظرین.

فی طوایا التاریخ علی امتداده یجد الباحث والمتتبّع رجالاً وعباقرةً غیَّروا مسیر التاریخ بعلمهم وفنِّهم، واقتادوا الشعوب إلی شواطئ المجد والخلود، وجداول الحقّ والواقع، وأوقفوهم علی المهیع القویم والصراط المستقیم.

نستوقف علی نفر من (الَّذِینَ یُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَیَخْشَوْنَهُ و وَ لَا یَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَ كَفَی بِاللَّهِ حَسِیبًا[7] )، ویدفعون الاُمّة إلی قمّة الإنسانیة والتكامل، وفی أیدیهم قبسٌ من تلك الحرائق الّتی یشعلها الأنبیاء أضواء هدایة علی الطرق، وزیتها من دمهم الّذی یتوهّج زیتاً، لا أكرم فی الزیوت ولا أضوأ فی الإنارة، ویقودون الأشرعة التائهة فی الیمّ، والقافلة الضالة الحائرة فی البیداء، إلی موانئ السلامة وسواء السبیل والهدایة.

یجد الباحث ببطن التاریخ صِوَر الّذین كانوا علی امتداد التاریخ فی الشموخ مشاعل وهّاجة، ومنارات شاهقة، حادوا قافلة الجهاد الفكری فی ظروف قاسیة فی الأسار، وقبضة الإرهاب والبطش الّتی كانت تلاحق كلّ من همس بإیمانه،

ناهیك عن الهتاف بعقیدته، وإعلانها علی رؤوس الأشهاد.

فی ظروف حالكة وعهود قائمة والسلطة الحاكمة فیها قید فی الأیدی، وعلی الأفواه والسجون والمنافی جعلت بیوتاً ومأوی للفقهاء والعلماء والشعراء، برغم هذا التعسّف كلّه یعمل نفر منهم جاهداً لإبادة الجهل والكفر والباطل، وإزاحة الكابوس اللاعقائدی الّذی یهدف بمساندة أذنابه وعملائه إغراء الشعب، ودفعه إلی أحضان الجهل والفساد، وتفریق صفوفه وتمزیق شمله، وفساد نظام مجتمعه، وفصم عری الاُخوّة الإسلامیة، وإثارة الأحقاد الخامدة، وحشّ نیران الضغائن فی نفوس الشعب الإسلامی، ونفخ جمرة البغضاء والعداء المحتدم بین فرق المسلمین (یَا أَیُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِی الصُّدُورِ)[8] .

أجل، لم تثن السجون والشهادة والتشرید وضرب السیاط وإلصاق التهم عزائم قادة الدین الصحیح، ولم تردعهم عن رسالتهم الصادقة، وإنّما شقّوا عباب تلكم الظروف القاسیة بالصبر والمثابرة والجهاد والمقاومة والبذل والمفاداة، وحملوا رایة المقاومة علی جبهة الفكر الكریمة، وحملوها عالیة، وإن سقطت واستشهدت دونها العشرات الفطاحل، وهم بین فقیهٍ ومجتهد، وعالمٍ ومؤلّف، وأدیبٍ وشاعر، فبلَّغوا وأدُّوا رسالتهم، وحكوا كلَّ شی ءٍ لمن ألقی السمع وهو شهید.

لقد استحوذ الحقُّ، وتغلّب الواقع علی هؤلاء العباقرة منذ نعومة أظفارهم، وحلّت الهدایة الإلهیة فی قلوبهم، فرأوا أزهار الجهل والفساد الّتی كانت تنبت بكلِّ مكان تتحوَّل إلی أظافر وأنیاب فی لحومهم، وفی جسم الشریعة الإسلامیة، فثاروا فی سبیل الحقّ، ونهضوا فی الذبِّ عن الحقیقة.

والواقع أنّ الشعوب مدینة لهؤلاء المجاهدین المبدعین والأعلام النابهین، الّذین كانوا فی كلِّ دورٍ وعهدٍ مصدر المعرفة الإنسانیة فی آفاقها الّتی لا تحدّ (إِنَّ الَّذِینَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلائكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَ لَا تَحْزَنُواْ وَ أَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِی كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[9] .

یمكن القول هذا بصراحة: إنّ ابن الصبّاغ المالكی یعتبر فی الطلیعة من المجاهدین الّذین حفظوا التراث الإسلامی والسنّة النبویة، وخالطت آثاره حیاة الاُمَّة، وكانت كالنقش علی حجر وظلّت فی أعماق روحها كما یتذكّر الإنسان حبّه الطفلی الأوّل، كان اسمه وأثره دائماً فی قلوبنا رمزاً لهذا النوع المتمیِّز من البشر، الّذین استطاعوا أن یجسِّدوا فی كلامٍ موجز وبحثٍ قلیل، أجمل وأنبل ما یمكن أن تجود به النفس الإنسانیة من مشاعر فی حبّ الحقّ والدفاع عنه والدعوة إلیه.

هذا بالإضافة إلی حیویة اُسلوبه وبیانه الّذی لا یزال رطباً غضّاً، كأ نّه لم یكتبه منذ قرون بل كأ نّه كتبه فی هذه الأیّام والساعات، لأ نّه لا یزال قرعه للأسماع شدیداً، ووقعه فی النفوس بلیغاً، مع أ نّه مضی علیه قرون، سلفت فیها اُممٌ، وتعاقبت شعوبٌ ودول، وتغیَّرت ظروفٌ وأحوال، ولكن اُسلوبه الرصین الخالد الّذی استعمله لخدمة دینه واُمّته وبنی قومه لم یتبدّل ولم یتغیّر، لأ نّه استمدّه من روحه وقلبه، ومن فكره وإخلاصه، وعقله المستخمر بحبِّ الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام والأئمّة الهداة من ولده علیهم السلام.

حقّاً أنّ نور الدین فی اُسلوبه وبیانه الممتنع الجزل المفید الوجیز لَیعكس فی أذهاننا جمیع عباراته، بیراعه الخالد الّذی لا یُنسی وقعه ولا یُمحی أثره.

ولنعم ما قیل:


إنْ كنتَ من شیعة الهادی أبی حسن
حقّاً فأعدد لریب الدهر تجنافا


إنّ البلاءَ نصیبُ كلّ شیعته
فاصبر ولا تكُ عند الهمّ منصافا


وهذا المعنی مأخوذٌ من قول الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام: مَن أحبَّنا أهل البیت

فلیستعدّ عدّةً للبلاء[10] وفی روایة: فلیستعدّ للفقر جلباباً[11] وقد ثبت أنَّ النبیَّ صلی الله علیه وآله قال لعلیٍّ علیه السلام: لا یُحبّك إلّا مؤمنٌ ولا یُبغضك إلّا منافق [12] ، وثبت أیضاً أ نّه صلی الله علیه وآله قال: إنّ البلوی أسرع إلی المؤمن من الماء إلی الحدود[13] .

ولم یكن المترجَم له إنساناً مغموراً حتّی یحتاج إلی التعریف والإشادة بمآثره، بل هو طودٌ شامخ وعلمٌ معروف، انتشرت آثاره العلمیة فی المكتبات الإسلامیة، وعُرفت مآثره الدینیة فی الأوساط العلمیة.

إنّه حیٌّ تتجدّد ذكراه علی مرِّ العصور والدهور.

نعم، سیبقی حیَّ الذكر اُولئك الّذین أدركوا مغزی خلقتهم للحیاة لا للفناء، واتّجهوا بكنه وجودهم إلی الحیِّ القیُّوم، واستضاؤوا فی مسیرتهم العلمیة بأنوار الأنبیاء، وجعلوا سیرة أولیاء الحقّ دستورهم المتّبع، هؤلاء سیبقی ذكرهم حیّاً خالداً، ولا یجد الفناء إلیهم سبیلاً.

ولیس المترجَم له ممّن یتباهی به أهل مذهبه فقط، بل یتباهی به المسلمون كافّة، لما أحسّوا فیه من الشخصیة المسهمة فی إعلاء كلمة اللَّه تعالی، وبذل الجهد لنشر الاُسس الإسلامیة المتینة، كما تشهد بذلك كتبه القیّمة، فجزاه اللَّه عن الإسلام خیر جزاء المحسنین.

وبما أ نّه قد تُرجمت شخصیة المؤلِّف فی معظم كتبه ومؤلّفاته- الّتی رأت النور حدیثاً- ترجمةً وافیةً وغزیرة وفی معظم كتب العلماء الأعلام ارتأینا أن نتناول نبذةً وجیزةً عن حیاته الشریفة.









    1. عسالیج: ما لان من قضبان الشجر.
    2. حاد عنه- من باب نصر-: مال وأعرض.
    3. السیر باللیل.
    4. الشوری: 23.
    5. التوبة: 32.
    6. سمل عینه- من باب نصر-: قلعها.
    7. الأحزاب: 39.
    8. یونس: 57.
    9. فصّلت: 30.
    10. بحار الأنوار: 34 / 336.
    11. نهج البلاغة (صبحی الصالح): الحكمة 112.
    12. الغدیر: 3 / 183.
    13. شرح النهج لابن أبی الحدید: 4 / 289.